فصل: الضرب التاسع من السلخ: وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصا، أو خاصا فيجعل عاما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.الضرب الثامن من السلخ: وهو أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا:

وذلك من أحسن السرقات، لما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول، وسعة باعه في البلاغة، فمن ذلك قول بشار:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ** وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

أخذه سلم الخاسر، وكان تلميذه فقال:
من راقب الناس مات غماً ** وفاز باللذة الجسور

فبين البيتين لفظتان في التأليف ومن هذا الأسلوب قول أبي تمام:
برزت في طلب المعالي واحداً ** فيها تسير مغوراً ومنجداً

عجب بأنك سالم في وحشة ** في غاية ما زلت فيها مفرداً

أخذه ابن الرومي فقال:
غربته الخلائق الزهر في النا ** س وما أوحشته بالتغريب

وكذلك ورد قول أبي نواس:
وكلت بالدهر غير غافلة ** من جود كفك تأسو كل ما جرحا

أخذه ابن الرومي فقال:
الدهر يفسد ما استطاع وأحمد ** يتتبع الإفساد بالإصلاح

وعلى هذا ورد قول ابن الرومي:
كأني أستدني بك ابن حنية ** إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا

أخذه بعض شعراء الشام، وهو ابن قسيم الحموي، فقال:
فهو كالسهم كلما زدته منك ** دنوا بالنزع زادك بعدا

ولقيت جماعة من الأدباء بالشام، ووجدتهم يزعمون أن ابن قسيم هو الذي ابتدع هذا المعنى، وليس كذلك، وإنما هو لابن الرومي.
ومما يجري هذا المجرى قول أبي العتاهية:
وإني لمعذور على فرط حبها ** لأن لها وجها يدل على عذري

أخذه أبو تمام فقال:
له وجه إذا أبصر ** ته ناجاك عن عذري

فأوجز في هذا المعنى غاية الإيجاز.
ومما يجري على هذا النهج قول أبي تمام:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ** عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر

حتى التقينا فلا والله ما سمعت ** أذني بأحسن مما قد رأى بصري

أخذه أبو الطيب المتنبي فأوجز، حيث قال:
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ** فلما التقينا صغر الخبر الخبر

وكذلك قولهما في موضع آخر، فقال أبو تمام:
كم صارما عضبا أناف على قفا ** منهم لأعباء الوغى حمال

سبق المشيب إليه حتى ابتزه ** وطن النهى من مفرق وقذال

أخذه أبو الطيب فزاد وأحسن حيث قال:
يسابق القتل فيهم كل حادثة ** فما يصيبهم موت ولا هرم

ومن هذا الضرب قول بعض الشعراء:
أمن خوف فقر تعجلته ** وأخرت إنفاق ما تجمع

فصرت الفقير وأنت الغني ** وما كنت تعدو الذي تصنع

أخذه أبو الطيب المتنبي فقال:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ** مخافة فقر فالذي فعل الفقر

.الضرب التاسع من السلخ: وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصا، أو خاصا فيجعل عاما:

وهو من السرقات التي يسامح صاحبها، فمن ذلك قول الأخطل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

أخذه أبو تمام فقال:
أألوم من بخلت يداه وأغتدي ** للبخل تربا ساء ذا صنيعا

وهذا من العام الذي جعل خاصا، ألا ترى أن الأول نهى عن الإتيان بما ينهى عنه مطلقا، وجاء بالخلق منكرا فجعله شائعا في بابه، وأما أبو تمام فإنه خصص ذلك بالبخل وهو خلق واحد من جملة الأخلاق.
وأما جعل الخاص عاما فكقول أبي تمام:
ولو حادرت شول عذرت لقاحها ** ولكن منعت الدر والضرع حافل

أخذه أبو الطيب المتنبي فجعله عاما إذ يقول:
وما يؤلم الحرمان من كف حارم ** كما يؤلم الحرمان من كف رازق

.الضرب العاشر من السلخ: وهو زيادة البيان مع المساواة في المعنى:

وذلك أن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه، فمما جاء منه قول أبي تمام:
هو الصنع إن يعجل فنفع وإن يرث ** فللريث في بعض المواطن أنفع

أخذه أبو الطيب المتنبي فأوضحه بمثال ضربه له وذلك قوله:
ومن الخير بطء سيبك عني ** أسرع السحب في المسير الجهام

وهذا من المبتدع، لا من المسروق، وما أحسن ما أتي بهذا المعنى في المثال المناسب له.
وكذلك قولهما في موضع آخر فقال أبو تمام:
قد قلصت شفتاه من حفيظته ** فخيل من شدة التعبيس مبتسما

أخذه أبو الطيب المتنبي فقال:
وجاهل مده في جهله ضحكي ** حتى أتته يد فراسة وفم

إذا رأيت نيوب الليث بارزة ** فلا تظنن أن الليث مبتسم

ومما ينخرط في هذا السلك قول أبي تمام:
وكذاك لم تفرط كآبة عاطل ** حتى يجاورها الزمان بحال

أخذه أبو عبادة البحتري فقال:
وقد زادها إفراط حسن جوارها ** لأخلاق أصفار من المجد خيب

وحسن دراري الكواكب أن ترى ** طوالع في داج من الليل غيهب

فإنه أتى بالمعنى مضروبا له هذا المثل الذي أوضحه وزاده حسنا.

.الضرب الحادي عشر من السلخ: وهو اتحاد الطريق واختلاف المقصد:

ومثاله أن يسلك الشاعران طريقاً واحدة، فتخرج بهما إلى موردين أو روضتين وهناك يتبين فضل أحدهما على الآخر.
فمما جاء من ذلك قول أبي تمام في مرثية بولدين صغيرين:
مجد تأوب طارقا حتى إذا ** قلنا أقام الدهر أصبح راحلا

نجمان شاء الله ألا يطلعا ** إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا

إن الفجيعة بالرياض نواضرا ** لأجل منها بالرياض ذوابلا

لهفي على تلك الشواهد فيهما ** لو أخرت حتى تكون شمائلا

إن الهلال إذا رأيت نموه ** أيقنت أن سيكون بدرا كاملا

قل للأمير وإن لقيت موقرا ** منه يريب الحادثات حلاحلا

إن تزر في طرفي النهار واحد ** رزأين هاجا لوعة وبلابلا

فالثقل ليس مضاعفا لمطية ** إلا إذا ما كان وهما بازلا

لا غرو إن فننان من عيدانه ** لقيا حماما للبرية آكلا

إن الأشاء إذا أصاب مشذب ** منه اتمهل ذرا وأث أسافلا

شمخت خلالك أن يواسيك امرؤ ** أو أن تذكر ناسيا أو غافلا

إلا مواعظ قادها لك سمحة ** إسجاح لبك سامعا أو قائلا

هل تكلف الأيدي بهز مهند ** إلا إذا كان الحسام القاصلا

وقال أبو الطيب في مرثية بطفل صغير:
فإن تك في قبر فإنك في الحشا ** وإن تك طفلا فالأسى ليس بالطفل

ومثلك لا يبكى على قدر سنه ** ولكن على قدر الفراسة والأصل

ألست من القوم الذي من رماحهم ** نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل

بمولودهم صمت اللسان كغيره ** ولكن في أعطافه منطق الفصل

تسليهم علياؤهم عن مصابهم ** ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل

عزاءك سيف الدولة المقتدى به ** فإنك نصل والشدائد للنصل

تخون المنايا عهده في سليله ** وتنصره بين الفوارس والرجل

بنفسي وليد عاد من بعد حمله ** إلى بطن أم لا تطرق بالحمل

بدا وله وعد السحابة بالردى ** وصد وفينا غلة البلد المحل

وقد مدت الخيل العتاق عيونها ** إلى وقت تبديل الركاب من النعل

وريع له جيش العدو وما مشى ** وجاشت له الحرب الضروس وما تغلي

فتأمل أيها الناظم إلى ما صنع هذان الشاعران في هذا المقصد الواحد، وكيف هام كل واحد منهما في واد منه، مع اتفاقهما في بعض معانيه.
وسأبين لك ما اتفقا فيه، وما اختلفا وأذكر الفاضل من المفضول فأقول: أما الذي اتفقا فيه فإن أبا تمام قال:
لهفي على تلك الشواهد فيهما ** لو أخرت حتى تكون شمائلا

وأما أبو الطيب فإنه قال:
بمولودهم صمت اللسان كغيره ** ولكن في أعطافه منطق الفضل

فأتى بالمعنى الذي أتى به أبو تمام، وزاد عليه بالصناعة اللفظية، وهي المطابقة في قوله صمت اللسان ومنطق الفصل.
وقال أبو تمام:
نجمان شاء الله ألا يطلعا ** إلا ارتداد الطرف حتى يأفلا

وقال أبو الطيب:
بدا وله وعد السحابة بالروى ** وصد وفينا غلة البلد المحل

فوافقه في المعنى وزاد عليه بقوله:
وصد فينا غلة البلد المحل

لأنه بين قدر حاجتهم إلى وجوده وانتفاعهم بحياته.
وأما ما اختلفا فيه فإن أبا الطيب أشعر فيه من أبي تمام أيضا، وذاك أن معناه أمتن من معناه، ومبناه أحكم من مبناه، وربما أكبر هذا القول جماعة من المقلدين الذين يقفون مع شبهة الزمان وقدمه، لا مع فضيلة القول وتقدمه، وأبو تمام وإن كان أشعر عندي من أبي الطيب فإن أبا الطيب أشهر منه في هذا الموضع، وبيان ذلك أنه قد تقدم على ما اتفقا فيه من المعنى، وأما الذي اخلتفا فيه فإن أبا الطيب قال:
عزاءك سيف الدولة المقتدى به ** فإنك نصل والشدائد للنصل

وهذا البيت بمفرده خير من بيتي أبي تمام اللذين هما:
إن ترز في طرفي نهار واحد ** رزأين هاجا لوعة وبلابلا

فالثقل ليس مضاعفا لمطية ** إلا إذا ما كان وهما بازلا

فإن قول أبي الطيب والشدائد للنصل أكرم لفظا ومعنى من قول أبي تمام:
إن الثقل يضاعف من المطايا، وقوله أيضا:
تخون المنايا عهده في سليله ** وتنصره بين الفوارس والرجل

وهذا أشرف من بيتي أبي تمام اللذين هما:
لا غرو إن فننان من عيدانه ** لقيا حماما للبرية آكلا

إن الأشاء إذا أصاب مشذب ** منه اتمهل ذرا وأث أسافلا

وكذلك قال أبو الطيب:
ألست من القوم الذين من رماحهم ** نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل

تسليهم علياؤهم عن مصابهم ** ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل

وهذان البيتان خير من بيتي أبي تمام اللذان هما:
شمخت خلالك أن يواسيك امرؤ ** أو أن تذكر ناسيا أو غافلا

إلا مواعظ قادها لك سمحة ** إسجاح لبك سامعا أو قائلا

واعلم أن التفضيل بين المعنيين المتفقين أيسر خطبا من التفضيل بين المعنيين المختلفين.
وقد ذهب قوم إلى منع المفاضلة بين المعنيين المختلفين، واحتجوا على ذلك بأن قالوا: المفاضلة بين الكلامين لا تكون إلا باشتراكهما في المعنى، فإن اعتبار التأليف في نظم الألفاظ لا يكون إلا باعتبار المعاني المندرجة تحتها، فما لم يكن بني الكلامين اشترك في المعنى حتى يعلم مواقع النظم في قوة ذلك المعنى أو ضعفه أو اتساق ذلك اللفظ أو اضطرابه وإلا فكل كلام له تأليف يخصه بحسب المعنى المندرج تحته، وهذا مثل قولنا: العسل أحلى من الخل، فإنه ليس في الخل حلاوة حتى تقاس حلاوة العسل عليها.
وهذا القول فاسد، فإنه لو كان ما ذهب إليه هؤلاء من منع المفاضلة حقا لوجب أن تسقط التفرقة بين جيد الكلام ورديئه وحسنه وقبيحه، وهذا محال وإنما خفي عليهم ذلك لأنهم لم ينظروا إلى الأصل الذي تقع المفاضلة فيه، سواء اتفقت المعاني أو اختلفت ومن هاهنا وقع لهم الغلط.
وسأبين ذلك فأقول: من المعلوم أن الكلام لا يختص بمزية من الحسن حتى تتصف ألفاظه ومعانيه بوصفين هما الفصاحة والبلاغة، فثبت بهذا أن النظر إنما هو في هذين الوصفين اللذين هما الأصل في المفاضلة بين الألفاظ والمعاني على اتفاقهما واختلافهام فمتى وجدا في أحد الكلامين دون الآخر أو كانا أخص به من الآخر حكم له بالفضل.
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج في تفضيل الشعر أشياء تتضمن خبطا كثيرا، وهو مروي عن علماء العربية لكن عذرتهم في ذلك، فإن معرفة الفصاحة والبلاغة شيء خلاف معرفة النحو والإعراب.
فمما وقفت عليه أنه سئل أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل فقال: لو أدرك يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدا، وهذا تفضيل بالأعصار، لا بالأشعار، وفيه ما فيه ولولا أن أبا عمرو عندي بالمكان العلي لبسطت لساني في هذا الموضع.
وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل، فقال أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو قابض عليها وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للقرائض، وأما أنا فمدينة الشعر. وهذا القول قول إقناعي لا يحصل منه على تحقيق، لكنه أقرب حالا مما روي عن أبي عمرو بن العلاء.
وسئل الأخطل عن أشعر الناس، فقال: الذي إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع، فقيل: فمن ذاك؟ قال: الأعشى، قيل: ثم من؟ قال: طرفة، وهذا قول فيه بعض التحقيق، إذ ليس كل من رفع بمدحه ووضع بهجائه كان أشعر الناس لأن المعاني الشعرية كثيرة والمدح والهجاء منها.
وسئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب، فقال: أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما البحتري فواصف جؤذر وأما المتنبي فقاتل عسكر، وهذا كلام حسن واقع في موقعه فإنه وصف كلا منهم بما فيه من غير تفصيل ويروى عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره، فقيل له: ولم ذاك؟ فقال: لأني نظمت اثني عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد، فيكون لي حينئذ اثنا عشر ألف بيت، وقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا له، لأن باقلا الذي يضرب به المثل في العي لو نظم قصيدا لما خلا من بيت واحد جيد، ومن الذي ينظم قصيدا واحدا من الشعر ولا يسلم منه بيت واحد؟ لكن كان الأولى ببشار أن قال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة ليس واحدة منهن إلا وجيدها أكثر من رديئها، وليس في واحدة منهن ما يسقط، فإنه لو قال ذلك وكان محقا لاستحق التقدم على الشعراء ومع هذا فقد وصل إلي ما في أيدي الناس من شعره مقصدا ومقطعا فما وجدته بتلك الغاية التي ادعاها، لكن وجدت جيده قليلا بالنسبة إلى رديئه، وتندر له الأبيات اليسيرة.
وبلغني عن الأصمعي وأبي عبيد وغيرهما أنهم قالوا: هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة، وهم عندي معذورون لأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام، ولا على معاني أبي الطيب، ولا وقفوا على ديباجة أبي عبادة البحتري، وهذا الموضع لا يستفتى فيه علماء العربية، وإنما يستفتى فيه كاتب بليغ، أو شاعر مفلق، فإن أهل كل علم أعلم به، وكما لا يسأل الفقيه عن مسألة حسابية فكذلك لا يسأل الحاسب عن مسألة فقهية، وكما لا يسأل النحوي عن مسألة طبية كذلك لا يسأل الطبيب عن مسألة نحوية، ولا يعلم كل علم إلا صاحبه الذي قلب ظهره لبطنه وبطنه لظهره.
على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة، ما من أحد إلا ويحب أن يتكلم فيه، حتى إني رأيت أجلاف العامة ممن لم يخط بيده ورأيت أغتام الأجناس ممن لا ينطق بالكلمة صحيحة كلهم يخوض في فن الكتابة والشعر، ويأتون فيه بكل مضحكة، وهم يظنون أنهم عالمون به، ولا لوم عليهم فإنه بلغني عن ابن الأعرابي وكان من مشاهير العلماء أنه عرض عليه أرجوزة أبي تمام اللامية التي مطلعها:
وعاذل عذلته في عذله

وقيل له: هذه لفلان من شعراء العرب، فاستحسنها غاية الاستحسان وقال: هذا هو الديباج الخسرواني، ثم استكتبها، فلما أنهاها قيل له: هذه لأبي تمام، فقال: من أجل ذلك أرى عليها أثر الكلفة، ثم ألقى الورقة من يده، وقال: يا غلام خرق، فإذا كان ابن الأعرابي مع علمه وفضله لا يدري أي طرفيه أطول في هذا الفن ولا يعلم أين يضع يده فيه ويبلغ به الجهل إلى أن يقف مع التقليد الشنيع الذي هذا غايته فما الذي يقول غيره؟ وما الذي يتكلم فيه سواه؟ والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرا والأخطل أشعر العرب أولاً وأخرا، ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه، ولا ينبغي أن يوقف مع شعر امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى، فإن كلا من أولئك أجاد في معنى اختص به، حتى قيل في وصفهم: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب، والأعشى إذا شرب، وأما الفرزدق وجرير والأخطل فإنهم أجادوا في كل ما أتوا به من المعاني المختلفة وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون، وهم أبو تمام، وأبو عبادة البحتري، وأبو الطيب المتنبي، فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني، وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها.
وبلغني أن أبا عبادة البحتري سأل ولده أبا الغوث عن الفرزدق وجرير أيهما أشعر، فقال: جرير أشعر، قال؛ وبم ذلك؟ قال: لأن حوكه شبيه بحوكك، قال: ثكلتك أمك أو في الحكم عصبية؟ قال يا أبت، فمن أشعر؟ قال: الفرزدق، قال: وبم ذلك؟ قال: لأن أهاجي جرير كلها تدور على أربعة أشياء هي القين، والزنا وضرب الرومي بالسيف، والنفي من المسجد، ولا يهجو الفرزدق بسوى ذلك، وأما الفرزدق فإنه يهجو جريرا بأنحاء مختلفة ففي كل قصيد يرميه بسهام غير السهام التي يرميه بها في القصيد الآخر، وأنا أستكذب راوي هذه الحكاية، ولا أصدقه، فإن البحتري عندي ألب من ذلك، وهو عارف بأسرار الكلام، خبير بأوساطه وأطرافه، وجيده ورديئه، وكيف يدعي على جرير أنه لم يهج الفرزدق إلا بتلك المعاني الأربعة التي ذكرها وهو القائل:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ** وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد.
ولقد تأملت كتاب النقائض فوجدت جريرا رب تغزل ومديح وهجاء وافتخار، وقد كسا كل منعنى من هذه المعاني ألفاظا لائقة به ويكفيه من ذلك قوله:
وعاو عوى من غير شيء رميته ** بقافية أنفاذها تقطر الدما

وإني لقوال لكل غريبة ** ورود إذا الساري بليل ترنما

خروج بأفواه الرواة كأنها ** شبا هندواني إذا هز صمما

غرائب آلاف إذا حان وردها ** أخذن طريقاً للقصائد معلماً

ولو لم يكن لجرير سوى هذه الأبيات لتقدم بها الشعراء.
وسأذكر من هجاء الفرزدق ما ليس فيه شيء من تلك المعاني الأربعة التي أشار البحتري إليها فمن ذلك قوله:
وقد زعموا أن الفرزدق حية ** وما قتل الحيات من أحد قبلي

ألم تر أني لا أنبل رميتي ** فمن أرم لا تخطيء مقاتله نبلي

رأيتك لا تحمي عقالا ولم ترد ** قتالا فما لاقيت شر من القتل

وقوله:
أبلغ هديتي الفرزدق إنها ** عبء تزاد على حسير مثقل

إني انببت من السماء عليكم ** حتى اختطفتك يا فرزدق من عل

وقوله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ** أبشر بطول سلامة يا مربع

ورأيت نبلك يا فرزدق قصرت ** ورأيت قوسك ليس فيها منزع

إن الفرزدق قد تبين لؤمه ** حيث التقت خششاؤه والأخدع

وقوله:
أحارث خذ من شئت منا ومنهم ** ودعنا نقس مجدا تعد فضائله

لبست سلاحي والفرزدق لعبة ** عليه وشاحا كرج وجلاجله

فلست بذي عز ولا ذي أرومة ** وما تعط من ضيم فإنك قابله

وقوله:
لا يخفين عليك أن مجاشعا ** لو ينفخون من الخؤرة طاروا

قد يؤسرون فلا يفك أسرهم ** ويقتلون فتسلم الآثار

وقوله:
بني مالك إن الفرزدق لم يزل ** يلقي المخازي من لدن أن تيفعا

مددت له الغايات حتى تركته ** قعود القوافي ذا علوب موقعا

وقوله:
ألا إنما كان الفرزدق ثعلبا ** ضغا وهو في أشداق ليث ضبارم

وقوله:
مهلا فرزدق إن قومك فيهم ** خور القلوب وخفة الأحلام

الظاعنون على العمى بجميعهم ** والنازلون بشر دار مقام

وقوله:
إذا سفرت يوما نساء مجاشع ** بدت سوأة مما تجن البراقع

مباشيم عن غب الهرير كأنما ** تصورت في أعفاجهن الضفادع

رأت مللا مثل الفرزدق قصرت ** عن العلو لا يأبى عن العلو بارع

أتعدل أحسابا كراما حماتها ** بأحسابكم إني إلى الله راجع

إذا قيل أي الناس شر قبيلة ** وأعظم عاراً قيل تلك مجاشع

وقوله:
علق الأخيطل في حبالي بعد ما ** عثر الفرزدق لا لعا للعاثر

لقي الفرزدق ما لقيت وقبله ** طاح التعيس بغير عرض وافر

وإذا رجوا أن ينقضوا لي مرة ** مرست قواي عليهم ومرائري

ولجرير مواضع كثيرة في هجاء الفرزدق غير هذه، ولولا خوف الإطالة لاستقصيتها جميعها، ولو سلمت إلى البحتري ما زعم من أن جريرا ليس له في هجاء الفرزدق إلا تلك المعاني الأربع لاعترضت عليه بأنه قد أقر لجرير بالفضيلة، وذاك أن الشاعر المفلق أو الكاتب البليغ هو الذي إذا أخذ معنى واحد تصرف فيه بوجوه التصرفات، وأخرجه في ضروب الأساليب، وكذلك فعل جرير، فإنه أبرز من هجاء الفرزدق بالقين كل غريبة، وتصرف فيه تصرفا مختلف الأنحاء، فمن ذلك قوله:
ألهى أباك عن المكارم والعلا ** لي الكتائف وارتفاع المرجل

قوله:
وجد الكتيف ذخيرة في قبره ** والكلبتان جمعن والمنشار

يبكي صداه إذا تصدع مرجل ** أو إن تفلق برمة أعشار

قال الفرزدق رقعي أكيارنا ** قالت وكيف ترقع الأكيار

وقوله:
إذا آباؤنا وأبوك عدوا ** أبان المقرفات من العراب

فأورثك العلا وأورثوني ** رباط الخيل أفنية القباب

وسيف أبي الفرزدق فاعلموه ** قدوم غير ثابتة النصاب

فانظر أيها الواقف على كتابي هذا إلى هذه الأساليب التي تصرف فيها جرير وأدارها على هجاء الفرزدق بالقين، فقال أولا: إن أباه شغل عن المكارم بصناعة القيون، ثم قال ثانيا: إنه يبكي عليه ويندبه بعد الموت المرجل والبرمة الأعشار التي يصلحها، ثم قال ثالثا: إن أباك أورثك آلة القيون، وأورثني أبي رباط الخيل، وقد أورد جرير هذا المعنى على غير هذه الأساليب التي ذكرتها، ولا حاجة إلى التطويل بذلك هاهنا وهذا القدر فيه كفاية.
وحيث انتهى بنا القول إلى هاهنا فلنرجع إلى النوع الذي نحن بصدد ذكره.